هل يمكن شرح مضامين النظريات و البراهين الرياضياتية بلغة عادية بحيث يمكن أن يفهمها السواد الأعظم من الناس؟ كلا، ليس من حيث المبدأ، هكذا أجاب معظم الرياضياتيين. فالرياضيات يجب أن تشرح بالمفردات و المصطلحات الرياضياتية فقط: لقد أصبح تجريدها العام متفاعلاً بصورة مطلقة و أمر يتحدى مجازات اللغة الطبيعية لتظل غير قابلة للأختزال. هل يمكن القول أن المعالجة الرياضياتية يجب أن تلغى من سلسلة آفاق العلوم؟ لكن المفارقة قد تغدو أبعد من ذلك عندما يتحقق المرء على أن قوة الرياضيات قد أخذت نصيب الأسد، و الفضل يعود إلى تجريدها الذي يتجاوز العلوم الأخرى، بل حتى على المجتمع بأسره.
يأخذ موشيه فلاتو هذه المفارقة و هذه القوة بحيث لا تخيب ظن القارىء : فهو يرفض أن يسلك الطريق اليسيرة ساعياً وراء تعميم الموضوع و خالقاً تصوراً ضبابياً. إن الطريق المختصرة الذي سلكه هو واحد من انعكاسات قوة الرياضيات و صورها: على نحو اختياري و شرعي و من ثم واعد. فكل من يقرأه سيكون قادراً على تصور قوة إبداع و خلق علماء الرياضيات. هؤلاء الرياضياتيون أنفسهم قد أحكموا القوة غير المتكافئة فكانت مجرد فكرة تم صوغها تماماً قبل أن تتم البرهنة على هذه القوة. لنأخذ تصور الرياضياتيين الإغريق الأوائل، الذين كانت و جهة نظرهم تجاه الرياضيات بمثابة مفتاح يفك أسرار العالم. إذاً، تبعاً إلى أرسطو، الذي تصدرهم، ذكر أن الفيثاغوريين في القرن الخامس قبل الميلاد ” اكتشفوا أن التعديلات و نسب السلالم الموسيقية يمكن التعبير عنها عددياً؛ و كل شيء يمكن أن يتم نمذجته بطبيعته الكاملة إلى أعداد أيضاً؛ و كما يبدو أن الأعداد هي الأساس الواقعي لكل ما في الطبيعة، و افترض أيضاً أن عناصر الأعداد هي عناصر الأشياء و إن الكون بأسره ما هو إلا سلم موسيقي و عدد. إن فترات الجواب النغمة الرابعة و الخامسة في الواقع يمكن التعبير عنها بواسطة النسب العددية البسيطة. و المثال الغريب هو تلك الظاهرة التي ليس لها علاقة ظاهرية بالرياضيات، و لكن يمكن التعبير عنها بالمعنى الرياضياتي. كانت للفيثاغوريين نظرة تتسم بالعظمة و الإجلال للطبيعة المركبة للموسيقى مثلاً !