اختلف المؤرخون في شخصية الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر وفي دولته العامرية التي أسسها على انقاض دولة الخلافة الأموية، فجعله بعضهم في أعلى عليين لا ترقى إليه الشبهات ولا يناله نقد ولا تجريح في كل ما فعل، وإنه بنى دولةً من أعظم الدول في تلك القرون، وجعله آخرون طاغيةً من طغاة العرب وحاكماً ظالماً عسوفاً مستبداً أذاق الناس المصائب والويلات، ولم تكن غزواته في سبيل الله والإسلام وإنما لتدعيم سلطانه وجبروته في شبه الجزيرة الإيبيرية.
وكلا الفريقين قد جانب الصواب والحقيقة، فمحمد بن أبي عامر حاكماً كغيره من الحكام الذين مروا في تاريخنا العربي الإسلامي، له ما له وعليه ما عليه، ولكن الأنصاف والمروءة يدعوننا نقول: إن ما له أكثر مما عليه بعشرات المرات، ولا يوجد في كل تواريخ الحكام والولاة الذين مروا في العالم واحداً ليس عليه شيء سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسس الحاجب المنصور دولته العامرية بعد أن بدأ ضوء دولة الخلافة الأموية يخبو شيئاً فشيئاً، وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة والأعداء من النصارى الإسبان يتحينون الفرصة للانقضاض عليها، وثب المنصور وثوب الأسد الهصور وأقام دولته، وبناها أعظم بنيان وأذاق النصارى الإسبان في عقر دارهم مرارة الهزيمة، حتى تمكن أن يبسط نفوذ دولته وسيطرتها في جميع أرجاء شبه الجزيرة الإيبيرية، وبلغت من القوة والمنعة والمجد ما لم تبلغه دولة سواها في جميع تاريخ الأندلس المحفوف بالمخاطر والجروح والآهات. ، من صفات المنصور التي لا يمكن لأي مؤرخ منصف أن يتغاضاها هي صفة العدل الذي كان يتحلى بها، فقد كان عادلاً لا يخشى في الله لومة لائم، وكان يقتص من الظالم وإن كان أقرب الناس إليه، وما جلده لابن عمه الذي فاضت روحه أثناء الجلد، عندما حجز أموال الدولة عنده ولم يرسلها لحاضرة الدولة، إلا دليلاً ساطعاً على ذلك، ومع ذلك فقد وضحنا المواطن الذي ظلم فيها المنصور غيره أو قتله لآخرين دون ذنب أو جريرة، أو شدته غير المبررة، ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هل يوجد حاكم في الدنيا لم يظلم أبداً؟